بين هجرة العقول و فقدها

عندما زارتنا صديقتي الأمريكية في بيروت أريتها الملجأ في بناية بيت جدي على الروشة، ثم حصل أن رأت باب ملجأ بنايتنا في الحمرا وسألت إلى أين يؤدي هذا الباب؟ فقلت إلى الملجأ. بعدها وفي مساء أحد الأيام بادرتني بسؤال: “لماذا يوجد أسفل كل بناية هنا ملجأ؟”

تكهنت حينها وقلت أن البلاد شهدت صراعات كثيرة، أو أن البنايات القديمة لم تكن قد شهدت مشكلة مواقف السيارات فأبقت الطابق تحت الأرض خالياً.

وقد عنّ لي اليوم أن أسأل أمي نفس السؤال لأتأكد مما أخبرته للزائرة. أجابت أمي أن هذه البلاد تشهد فعلاً منذ الحرب العالمية الأولى (أو قبلها) صراعات مسلحة كل فترة قصيرة.

اليوم وبعد أن تأكد لي مما يجري حولنا أن “السياسة” و”الإنسانية” مفهومان لا يتفقان مطلقاً، أفكر فيما يلي:

إذا كانت أجيال هذا البلد (وهنا أتحدث عن لبنان تحديداً) منذ عام ١٩١٤ قد عايشت حرباً إثر حرب، فإننا نولد في وطن تكون فيه أمور مثلُ الألم والفوضى والفساد والقتل والسرقة والعنف والطائفية والحرب أموراً عاديّة. فلا عجب إذاً أن لا يسعى اللبنانيون لمحاربة هذه الأمور أبداً وإنما للتماشي معها لأنها من روتين الحياة، “هيدا بلدنا. احمد ربك بعدنا أحسن من الفلسطينية ما عندهم بلد بالمرّة.”

يا أخي أنا أحمد الله في اليوم كثيراً -بقدر البلاوي المحيطة بنا- ولله الحمد. ولكن هل أصبح تمنّي العيش في بلد ينظر الناس فيه إلى الفساد والرشوة والسرقة والعنف والألم على أنها ليست من مسلّمات الحياة، هل أصبح ذلك بطراً أو كفراً والعياذ بالله؟ ألا يحقّ للطفل بداخلي أن يحلم بالأمان يوماً واحداً فقط في هذا الكيان؟

الأمر الوحيد الذي أفادتنا فيه هذه المشاكل كلها هي أن “هجرة العقول” أيضاً أصبحت بالنسبة للناس أمراً عادياً، فإني أرى معظم الشباب بين نارين، إما “هجرة العقول” أو “فقد العقول” ومسايرة الفلتان.